اعتصام القيادة يجسّد قوة العمل التطوعي

 

تحت أشعة شمس الخرطوم الحارقة وزوايا شوارعها التي ضخت فيها الحياة بغتةً، يمر شريط حياة خالة عوضية كوكو في اعتصام القيادة العامة للقوات المسحلة السودانية في الخرطوم بكل تفاصيله، كيف هربت من جنوب كردفان الممزقة بالصراعات إلى الخرطوم في ستينيات القرن، وكيف بدأت عقب زواجها  .رحلة امتهان بيع الشاي الصعبة من منتصف الثمانينات إلى يومنا الحالي. لكن تتذكر خلال سرد حكايتها أيضاً جموع بائعات الشاي والنساء عامةً التي ناضلت من أجل تحسين أوضاعهن وحقوقهن في الحصول على حياة كريمة، فتجدها تشير بكل بساطة إلى نيلها “جائزة المرأة الشجاعة” من وزير الخارجية الاميركي السابق جون كيري في واشنطن مارس/آذار 2016. وتقول ساخرة “مشيت البيت الأبيض والبشير ما شافو بعينو”. وكيف عادت إلى السودان مرةٍ أخرى لإكمال مسيرتها من بيتها المكوّن من صفائح واتهام النظام الحاكم عليها بالتجسس. نجد أن عوضية كوكو تسرد أحداث رحلة حياتها وهي تقلي عجين اللقيمات في الزيت وتعد الشاي في شارع القيادة مجانًا لغفير المعتصمين الثوار، مجسدين بذلك ملايين الحكايات التطوّعية كعوضية كوكو وأكثر.

كُرّست الجهود المجتمعية والتطوعية للمواطنين السودانيين التي تجّذرت في الثقافة السودانية من أجل صمود الاعتصام، أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة الذي ما يزال مستمراً منذ السادس من أبريل/ نيسان الحالي، تأكيدًا على الاحتجاجات والمظاهرات التي أشعلت شرارتها منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي لإسقاط نظام عمر البشير.

شهدت الساحة السياسية السودانية تغييًرا كبيرًا، فبعد نجاح الحشد المليوني الذي دعا إليه تجمع المهنيين السودانيين على غير عادة، تحقق مطلب الثورة الأول بسقوط البشير، ونجح الثوار في إسقاط وزير الدفاع عوض بن عوف الذي تنحى عنرئاسة المجلس العسكري الانتقالي بعد يوم من توليه المنصب. ومازال اعتصام القيادة العامة قائم إلى الآن بالرُغم من محاولات فضه. ومازال السودانيون معتصمين إلى أن يتم تحقق مطالب الشعب بإسقاط المجلس العسكري الإنتقالي وتسليم الحكم إلى سلطة مدنية انتقالية.

image

وعملت الجهود المجتمعية والمبادرات التطوعية على دعم الحراك الثوري في السودان واستمراريته. كما أكد الباحث في جغرافيا ومجتمع السودان  د/ جمعة كندة، “إن الاعتصام فعل سياسي ذو أهداف سياسية شعبية بالدرجة الأولى”، وأضاف “وتم استخدام ثقافة التضامن الاجتماعي والتطوع المتجذرة فى الثقافة السودانية فى تحقيق أهداف الثورة”.

 

 كما نرى ذلك جلّيًا في مقطع الفيديو من اعتصام القيادة العامة

مظاهر التطوع في القيادة العامة عديدة ومتنوعة، فبمجرد بدء الاعتصام تشكّلت لجان تطوعية خدّميه من أجل ضمان استمرار الاعتصام والوصول إلى أهدافه، مثل لجنة التفتيش والتي تتواجد في كل المداخل للحفاظ على أمن ميدان الاعتصام، فيما يتطوع الكثير من الأفراد، والمؤسسات، والمبادرات التطوعية بتأمين ماء الشرب ومختلف أنواع الأطعمة. ولم يخل الاعتصام بالتأكيد من نقاط العيادات ونقاط الطوارئ لعلاج المعتصمين، حيث يتطوع عدد كبير من الأطباء بصورة مستمرة، فيقول الطبيب أنس الإمام “بالكاد تتكرر وجوه الأطباء في العيادة الواحدة لأكثر من يوم” وأضاف ” حالات المصابين أثناء الاعتصام تعتبر أساسية وبسيطة إلى حد ما، مقارنة بأنواع الإصابات سابقًا طوال الأربعة أشهر الماضية، نظرًا لاختلاف أساليب قمع المتظاهرين، ويتم تحويل الحالات الخطيرة إلى المستشفيات المجاورة فوراً”

:وإذا تم التساؤل عن خلفيات وأعمار مختلف المتطوعين ففي المقطع الصوتي سوف نجدها متفاوتة ومتنوعة

لم تقتصر مظاهر التطوع في الاعتصام على اللَجان الخدمية فقط، بل امتاز بتعزيز الجانب الترفيهي والثقافي بوجود مسرح و شاشات كبرى للهتاف والندوات والعروض الموسيقية مثل حفل الفنان أبو عركي البخيت رغم ابتعاده الطويل عن الساحة الفنية، وبث المباريات العالمية والأفلام المستقلة مثل فيلم “سجن الكجر” للمخرج السوداني محمد كردفاني الذي تدور أحداثه حول الصراع النفسي الذي يعيش فيه ضابط الأمن السوداني. بالإضافة إلى أركان النقاش المختلفة السياسية والتوعوية ومكتبة الكتب، وازدهار المشهد الفني من خلال الجداريات التي زينت جدران المباني حول ميدان الاعتصام وفي شوارع السودان بشكل عام

أشكال تكاتف الشعب السوداني كثيرة، بدايةً من حركات النفير عند سيول موسم الخريف ومساعدة المتضررين، إلى ثقافة “دق الشير” أي جمع التبرعات لعمل معين، وفضلًا عن عمل مختلف الجمعيات والمبادرات الخيرية التي تعمل على تغطية حقوق المواطن الأساسية كالماء والكهرباء، التعليم والصحة، والمأكل والملبس. ولفت مؤسس منظمة “مجددون السودان” فارس النور إلى “إن العمل التطوعي في السودان كان من الأسباب التي ساعدت النظام بطريقة غير مباشرة في الاستمرار في الحكم لمدى تغطيتها جوانب أساسية عديدة في حياة الإنسان”